الصحافة الفردية ضد الإعلام النخبوي- انتفاضة القيم في أمريكا
المؤلف: محمد الساعد11.07.2025

عقب إعلان نتائج الانتخابات الأمريكية، والتي أسفرت عن فوز دونالد ترامب، دار حوار بين إعلامية أمريكية يافعة وإيلون ماسك، مالك منصة X. خلال هذا الحوار، صرحت الإعلامية الشابة قائلة: "نحن وسائل الإعلام الآن!"، فأجابها ماسك بتأكيد: "نعم، أنتم وسائل الإعلام الآن". هذا الحوار يعكس صراعًا جليًا بين وسائل الإعلام التقليدية العملاقة، المدعومة بمليارات الدولارات والتي انحازت للديمقراطيين، وبين ناشطين وصحفيين مستقلين تمكنوا من التصدي لهذه المؤسسات الإعلامية وتعويض القراء عن تحيزها الواضح.
وكأن التاريخ يعيد نفسه، فها هي الصحافة تعود إلى جذورها. المؤسسات الصحفية الكبرى وصلت إلى حالة من التحزب المفرط وفرض الأيديولوجيات، متجاهلة آراء قرائها وتطلعاتهم. هذا الأمر أفسح المجال لما يُعرف بصحافة الأفراد، لكي تظهر وتتيح للقراء خيارات متنوعة ومختلفة.
إنها سانحة لبناء مؤسسات إعلامية جديدة، لتحويل هذه المبادرات الفردية إلى كيانات صحفية بديلة، تحل محل المؤسسات الهرمة والمتغطرسة. بقاء الأفراد بمفردهم لن يكون مفيدًا، ومصيره الزوال لأسباب جمة. هذه الظاهرة تذكرنا ببدايات الصحافة في التاريخ الإنساني، عندما انطلقت بمبادرات فردية تطورت عبر الزمن إلى مؤسسات راسخة.
لقد اختزل "ماسك" هذا الصراع الإعلامي المحتدم في الولايات المتحدة، بين الوسائل التقليدية وبين أفراد استغلوا منصات التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها منصة X، للتعبير عن آرائهم وتأسيس صحافة بديلة تعكس معتقداتهم وقناعاتهم.
هذا الصراع يحمل في طياته خصومات اجتماعية وطبقية وفئوية عميقة، بين التيارات والنخب والقواعد الشعبية. وقد أفرز هذا الصراع، في أعقاب الانتخابات الأمريكية، ما يشبه انتفاضة شعبية عارمة، تمامًا كثورات أوروبا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، عندما ثار الفقراء والعامة ضد النخب الأرستقراطية. لكن المفارقة في الحالة الأمريكية تكمن في أن واجهة هذه الثورة هم من أثرياء أمريكا، مثل دونالد ترامب وإيلون ماسك.
إذًا، هذا الصراع لم يكن صراعًا على المال فحسب، وإن كان المال أحد العوامل المساعدة، بل كان في جوهره صراعًا على القيم والأخلاق، التي تجمع بين الغني والفقير، الأبيض والأسود، المسلم واليهودي والمسيحي، وحتى أصحاب الديانات الأخرى، ضد الانحراف الذي يروج له اليسار المتطرف، والذي يسعى إلى تدمير القيم الإنسانية وتحويل البشر إلى كائنات مشوهة.
الضغينة الإعلامية الواضحة تجاه دونالد ترامب، من قبل الحزب الديمقراطي ومعظم وسائل الإعلام التقليدية مثل (سي إن إن، سي بي سي، النيويورك تايمز، الواشنطن بوست... إلخ)، والتي اصطفت ضده منذ سنوات طويلة في محاولة لإقصائه من المشهد السياسي الأمريكي، كانت مجرد قمة جبل الجليد لانقسام أمريكي عميق، بين نخبة تتكون من الإعلاميين ومشاهير هوليوود وأصحاب النفوذ المالي وعائلات سياسية، استأثرت بالمال والسلطة وتظن أنها مخولة بقيادة البشرية وتوجيهها.
لقد استطاع هؤلاء الذين يمكن تسميتهم بـ "المهمشين إعلاميًا" إنشاء منصات مجانية على موقع X ويوتيوب، وصل صداها إلى مئات الملايين من المتابعين، وتمكنوا من التأثير فيهم ونشر أفكار وبرنامج ترامب في الشارع الأمريكي.
بالرغم من الإمكانات المالية والتقنية الهائلة التي يتمتع بها الإعلام التقليدي النخبوي، إلا أنه فشل في إدراك القطيعة التي تسبب فيها مع الشارع الأمريكي. وقد تجلى هذا الفشل بوضوح في استطلاعات الرأي غير الدقيقة. المجتمعات المحلية المؤيدة لترامب تبنت خطة دفاعية، فامتنعت عن التصريح بآرائها قبل الانتخابات الرئاسية، وفضلت إما الإدلاء بمعلومات مضللة أو تجنب الإفصاح عن مواقفها، وهو الأمر الذي أوقع الديمقراطيين وإعلامهم في وهم النصر الزائف.
لقد كان الفوز الكاسح لترامب نتيجة طبيعية للغضب المتراكم لدى الطبقات الشعبية، ضد النخب السياسية والفنية والإعلامية التي لا تمثلها، والتي أفرطت في الكذب والتضليل والدفع بالأفكار المتطرفة على حساب المهمشين. إنها نخب منفصلة عن الواقع، لا تعبر عن البسطاء، بل تفرض أجنداتها وتهاجم كل من يخالفها.
إن التصويت العقابي الذي مارسه الشعب الأمريكي لم يستهدف الحزب الديمقراطي وحده، بل طال جميع النخب، من الإعلاميين والفنانين إلى أعضاء الكونجرس وحكام الولايات. وكأن الشعب يقول لهم: لقد استبدلنا ذراعكم الإعلامية التقليدية، التي أصبحت جزءًا من الجسم السياسي الفاسد أخلاقيًا. ولهذا السبب نجحت الصحافة الفردية على X في نشر الأخبار وتوجيه الرأي العام.
كما نجحت برامج البودكاست في التأثير على فئة الشباب والطبقات المتوسطة والعمال والموظفين، الذين يقضون ساعات طويلة في سياراتهم يستمعون إلى برامج بودكاست زهيدة التكلفة، بدلاً من مشاهدة النخب المتغطرسة والمتكلفة في قنوات مثل "سي إن إن" وغيرها.
لقد انتصرت فتاة صغيرة تتقاضى مئتي دولار فقط من عوائد منصة X، ولا تستقل سيارة فارهة إلى استوديوهات الأخبار، على كبار المذيعين الذين يتقاضون ملايين الدولارات من المحطات التلفزيونية الليبرالية.
